الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه متاب،
قال الله تعالى في سورة التوبة: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
من هو أبو عامر الراهب (الفاسق)
اسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي، أحد بني ضبيعة بن زيد من الأوس.
ابنه هو حنظلة بن أبي عامر، من صحابة رسول اللّه محمد ﷺ، والذي عُرف باسم غِسّيل الملائكة، استشهد صبيحة عرسه في أحد وغسلته الملائكة بنص الحديث الشريف.
كان أبو عامر الراهب قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علْم أهل الكتاب ، وكان المشركون يعظمونه ،
فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر على مشركي قريش ، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الإسلام ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرَّد ، قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : فإنا عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك لست عليها " ، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية " ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " آمين " . وسماه أبا عامر الفاسق .
وظل يناصب رسول الله ﷺ العداء ، وقال للرسول: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم.
- قبل غزوة أحد خرج أبو عارم فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش ، يألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، ووعد قريش بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه، وأنه لن يختلف عليه منهم رجلان ؛ فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحأبيش وعبدان أهل مكة ، فنادى : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر ؛ فلم يسمعوا له وقالوا له «لا أنعم الله بك علينا يا فاسق يا عدو الله» ونالوا منه وسبوه فرجع إلى مكانه.
وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية : الراهب ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : الفاسق - فلما سمع ردهم عليه قال : لقد أصاب قومي بعدي شر ، ثم قاتلهم قتالا شديدا ، ثم راضخهم بالحجارة ، وحفر حفراً فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصيب .. وكان شعار المسلمين يومئذٍ، «أَمِت».
وخلص المشركون إلى رسول الله فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيته اليمنى، وكانت السفلى، وهشموا البيضة التي على رأسه ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه ﷺ، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله .
-لما أجلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني النضير ساروا إلى خيبر، وكان بها من اليهود قومٌ أهل عددٍ وجلدٍ، وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير - كان بنو النضير سرهم، وقريظة من ولد الكاهن من بني هارون - فلما قدموا خيبر خرج حيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس من بني خطمة، وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلاً إلى مكة يدعون قريشاً وأتباعها إلى حرب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمداً.
- فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قـوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة،
-ثم فر إلى الكافرين : ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومَنَّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق (2) والريب (بنو غنم بن عوف) يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا (3) يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ، ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ،
فبنوا مسجد الضرار (5) إلى جانب مسجد (1) قباء (بنو عمرو بن عوف)، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته ، وقالوا للنبي: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال الرسول: ( إني على جناح سَفر وحال شُغل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه )،
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك راجعا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم (ذي أوان)، أتوه وقد فرغوا من المسجد وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد ، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار ; وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق (4) بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى ، ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي – أو : أخاه عامر بن عدي - أخا بني العجلان فقال : ( انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه ) . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدّخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل أهله فأخذ سَعَفا من النخل ، فأشعل فيه نارًا ، ثم خرجا يَشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه . وأمر رسول الله أن يجعل مكانه كناسة تلقى فيـها الجـيف والقمامة.
وقد روى الحاكم أن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول: " رأيت الدخان من مسجد الضرار حين انهار " . وقد استجاب الله ـ عز وجل ـ لدعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أبي عامر ذلك المنافق، أن يموت بعيدًا طريدًا، فمات بالشام وحيداً غريباً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (كانت تسمى آنذاك "يثرب") مهاجرا توقف في ضاحيتها الجنوبية الغربية عند بني عمرو بن عوف في "قباء"، وأقام عند شيخهم كلثوم بن الهِدْم أربعة أيام أسس خلالها مسجدا سُمي لاحقا "مسجد قباء"، ثم واصل سيره حتى بلغ المدينة حيث استقر به المقام وأنشأ الدولة الإسلامية.
2- لقد سلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام طريق اللين والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في خيانة ربما تهدر دمه، تجاوز عنه حتى لا يقال: إن محمدا يقتل أصحابه، وما هم من صحبته في شيء، ولكن هكذا ربما يقول الناس .. ولو كان في هؤلاء المنافقين خير لأسرهم هذا الحلم والعفو والخلق النبوي، ولأقبلوا على الإسلام، غير أن هذا الأسلوب الكريم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يزدهم إلا جرأة على نفاقهم وباطلهم، ومن ثم لم يبق بد من كشف خبثهم ومؤامراتهم .
3- وهكذا حاول المنافقون ـ كعادتهم ـ الكيد والـتآمر على الإسلام والمسلمين ببنائهم لهذا المسجد، لأسباب مقنعة في الظاهر ـ من التيسير على ضعفاء المسلمين ـ، وهو أسلوب ماكر خبيث قد ينطلي على كثير من الناس، كما يفعل المنافقون وأعداء الإسلام اليوم .
4- فمسجد الضرار ليس حادثة في المجتمع الإسلامي الأول انتهت وانقضت، بل هي فكرة ومؤامرة مستمرة، يُخَطط لها، وتختار الوسائل الدقيقة لتنفيذها، في صور كثيرة ومختلفة، فلا يزال أعداء الإسلام ـ من المنافقين والمبشرين وغيرهم ـ يقيمون أماكن ظاهرها البناء والخير والإصلاح، وباطنها حرب على الله ورسوله، وهدفها الطعن في الإسلام، وتشكيك المسلمين في معتقداتهم، وإبعادهم عن قيمهم وآدابهم، فيقيمون مدارس باسم التعليم ليتوصلوا بها إلى بث سمومهم بين أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، ويعقدون الندوات والمنتديات باسم الثقافة والتطوير، والغرض منها خلخلة العقيدة في القلوب، والقضاء على القيم في النفوس، ويبنون مستشفيات باسم المحافظة على الصحة والخدمات الإنسانية، والغرض منها التأثير على المرضى والفقراء وصرفهم عن دينهم، وقد اتخذوا من البيئات الجاهلة والفقيرة - لاسيما في بلاد إفريقيا - ذريعة للتوصل إلى أهدافهم ومؤامراتهم الخبيثة ..
4- ومن ثم فعلى المسلمين أن يأخذوا من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدروس والعبر التي تساعد الأمة على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين، من خلال معرفة عوامل النهوض والنصر، وأسباب السقوط والهزيمة، ويتعرفون على هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تعامله مع الأعداء، وتربيته للأفراد، وبنائه للدولة .
5- كان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار ، ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن الأزعر ، وعبادة بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف . وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية ، ونبتل بن الحارث ، وبحزج ، وبجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت .
- قال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد ؟ فقال : أعنت فيه بسارية . فقال : أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم .
- وروي أن بني عمرو بن عوف ، الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم ، فقال : لا ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين : لا تعجل علي ، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، ولم أعلم ما في أنفسهم ، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .